U3F1ZWV6ZTI5NTQzNDI5MTM3NTcyX0ZyZWUxODYzODU0OTc0NTY4NA==

هذيان بقلم الأستاذة المبدعة رند عيسى

 


هذيان

20 يناير
سئمتُ من هلوستي بك يا هذا ، من أنت ؟ 
ومن أنا؟
هل أنا التي مزَّق الخذلان روحها فاحتمت بطيفك؟ 
أم أنا المهووسة بأدق تفاصيلك؟ 
لا عليك ، لقد كان هذا زماناً طويلا ، لم أعد أتأملك بذات الدهشة ؛ خوفاً على عيني التي أرهقتها التفاصيل . .
لكنّ الأمر بات مُتعباً يا صديق ، و رمشك الأخير هذا أتعبني وهو يحثني في كل مرةٍ على البحثِ في وجهِـكَ عن تفاصيلٍ أخزنها في ذاكرتي لأمدٍ بعيد ، أطبطبُ بها على قلبي الحزين بسبب غيابك الطويل . .
27 يناير
بدأ غيابك يطول كثيراً، إلى متى يا شقيق الروح ؟
المدينة كلها نائمة ، وقلبي شقيٌّ لا ينام . .
أستذكر جلستنا الماضية ، بسحر ابتسامتك وعينيك ، هذا السحر الذي يجعلني أتخدر في كل مرة ، وأتحمل هذا الغياب . .
عُد في هذه الليلة ، فقط أخبرني أنك تحبني وأنني شخصٌ مهم في حياتك
دعني أرى عينيك ، وابتسم لي بِـحُبّ كما كلِّ مرة ،
وسأتحمّل ابتعادك مرّةً أخرى . .
12 فبراير 
ها هي الساعة العاشرة ، لقد مضت ليالٍ طويلة ، أنتظرُ شبحَك خلف النافذة ،
و ككلِّ يوم ؛ أُشعل الموقد وأُحضّر القهوة وأنتظر مجيئك بغباءٍ أنثويٍّ عاشق! 
تذكّرتُ علبة السجائر التي نسيتها معي في آخرِ مرةٍ رأيتك فيها ، أتتذكر؟ 
نهضتُ مسرعةً نحو قميصي الذي كنت أرتديه ، لقد كان يحمل رائحتك ،ورائحة عطرك بعد آخرِ عناق ،  
نسيت علبة السجائر ونسيتُ مَنْ أنا ، ولماذا جئتُ إلى هنا . .
كانت رائحتكَ وحدها كفيلةً بأن تنفض الغبار عن قلبي ، وتجعله يُحدِث ثورة ، أريدُك الآن ..
مرّتْ نصف ساعة وأنا أجلس في مكاني والقميص بين يديّ، وأبكي ، تذكرتُ علبة السجائر ، بحثتُ في جيب القميص ، وجدتُها 
لم أنتبه على نفسي ، سقطَتْ دمعة هاربة على العلبة ، رفعتُ رأسي وجاء بصري نحو مرآةٍ معلّقة على الجدار البعيد المقابل لي 
ما الغلط بي؟ ما الذنب الذي لم يُغفَر لي؟
ما الخطيئة التي ارتكبتُها ولم أنتبه على نفسي ، والآن تحاسبني عليها؟ 
هل هكذا تكون جهنّمُك ؟ 
27 مارس
ستون يوماً بالضبط يمُرّون ستين قرناً منذ غيابك.
اليوم جدّدتُ شوقي وانتظاري وتأمّلتُ رؤيتك

فتحتُ الباب ، نظرت في الشوارع ببلاهةِ طفلةٍ تحاول رؤيتك وأنت قادم لتركض نحوكَ وتعانقك مرحِّبةً بمجيئك ،
لم ترحمْ قلبي
الآن أنا لا أريد منك أن تعترف لي ولنفسك أنك تحبني ، أو أنَّ وجودي مهم جداً في حياتك ، فقط افعل شيئاً يجعلني أشعر أنني في قلبك 
يجعلني أشعر أنني -في يومٍ ما- كنتُ شخصاً تحبّه جداً ، كنتُ شخصكَ الأهم! 
أعرف أنك نسيتني وأنني الآن لستُ إلا ذكرى عابرة في حياتك
لكن على الأقل امنح اعتباراً لهذه الذكرى ، أنا -إلى الآن- لا أتحمل غيابك .. أحتاجُكَ بشدة . .
8 أبريل 
ماذا حدث ؟ ما الذي فعلْتَه بي ؟ 
ما الذي جعلني أتعلّقُ بكَ إلى هذا الحد؟
أنا أهذي
أراك من خلف النافذة تطرق الباب ، أفتح الباب ولا أجد أحد
أحاول الانشغال بأعمالي فأسمع وقْعَ أقدامك ، أركض بلهفة وأفتح الباب ، لا شيء في الطريق ، صريرُ ريحٍ كاذب . .
يدور في ذهني كلُّ ما كُنتَ تخبرني به ، عُد الآن واسرد لي كُلَّ شيءٍ يخُصُّك بتفاصيله المُمِلّة ! 
عُد مرّةً أخرى وتأمَّلني كما كُنتَ تفعل! لطالما اعترفتُ لنفسي بأنَّ هزيمتي الأولى كانت طريقتُكَ وأنتَ تتأمّلني ..
عُد ، و صِفْ لي ملامحي كما كنت تفعل ؛ مغازلاً إيّايَ بأسلوبٍ يؤرّقُ قلبي لليلتين!
تحاوِرْني بأمورك الجدّية ، ثم تسكت بمنتصف الحديث وتطيل النظر بعينيّ ، تُخبرني بأنك مُطمئنّ لأنني هنا ،معك
والآن ، أنا فقدتُ طمأنينتي و سلامي الداخلي كلّه في غيابك ..
أمسيْتُ دماراً . .
مظهري كامل ، لكن أقسم أنّ روحي أشلاءً مبعثرة على شاطئ الذاكرة ، الذاكرة الحُلوة المُرّة! 
أنا أراك ، أقسم أنك أمامي 
لماذا أنت بعيدٌ عني هكذا ؟ 
اقتربْ ؛ اقترب وأجبني عن ملايين الأسئلة التي تضرِبُ ذهني  
اقتربْ و امسح سيلَ الدموع الذي صار على وشك الانهيار
أين أنتَ الآن؟ لقد اختفيت مرَّةً أخرى! اللعنة عليك . .
19 أبريل
اليوم مُختلف قليلاً ، أخيراً اتخذتُ خطوة حاسمة و قرّرتُ التخلص منك
ذهبت إلى عيادة طبيبٍ نفسيّ
سجلتُ مواعيدي على ورقة و علّقتها بمنتصف الجدار ، إلى جانب القميص الذي يحمل رائحتك
لا ، اطمئن ، سأغسل القميص قريباً ، أنا لم أعد أشتاقك والقميص هذا لا يهمّني
حسناً
أنا كاذبة
لكنني متأكدة أنني في يومٍ ما سأغسله ، عندما أنتهي منك
أتعرف؟ ليتني أتقيّأ قلبي . .
2 أبريل
الجلسة الخامسة عند الطبيب ،
دائماً يسألني أسئلة سخيفة جداً ، ويحاورني بأمورٍ لا جدوى منها
ودائماً أقاطعه عندما أجد أن الحوار أصبح مُملاً جداً ، وأسأله السؤال ذاته ، السؤال الذي وخزَ قلبي قبل عقلي ، لماذا رحلت ؟
لماذا لم تكلّف نفسك أن تودعني حتى؟
يرمقني بنظرة ازدراء ، لا يهم ، أنا بنظرِهِ مريضة نفسيّة حتى لو حاول أن يفهم وجهة نظري ولماذا أتيت
حقاً أنا مريضة ، مريضةٌ بك 
لكنني واثقة أنه لن يفهمني مهما حاول ، لأنني أحدّثهُ عن شيءٍ قطعتُ فيه آلاف الأميال تفكيراً ، بينما هو لم يمشِ فيه خطوةً واحدة! 
لكنّني أحاول ، وهذا يكفي
26 أبريل
أخيراً ، بدأ الأمر يتحسّن كثيراً 
والطبيب يخبرني اليوم للمرة الثالثة بأنه يشعر بفارق كبير عن الجلسات الأولى
حتى أنا ، أشعر براحةٍ أكبر ، وبدأت أتحرّر من قيودٍ أسرتني لأشهر طويلة
خرجتُ من عنده وأنا أرى كل شيء مُختلف ،
أنظر للسماء بعينٍ أعياها السهر ، هناك مواساةٌ من الغيم تُربّت على روحي، أخيراً ... الحياة من جديد ..
2 مايو
جلس الطبيب أمامي 
-أخبريني ، كيف حالك اليوم؟
-أفضل من كل مرة
-أتتذكريه؟
-مَنْ تقصد؟
-هو 
-مَن هو؟
-الغائب البعيد
-وهل هذا "الغائب البعيد" يريد العودة؟ 
-لا ، أبداً.
-إذاً لا ، لا أتذكره ، الغائب الذي لا يريد العودة أفضّلُ نسيانه.
أشرقَ وجه الطبيب ، وابتسمَ ابتسامة لطيفة جداً ، نظر إليّ مفتخراً ! جعلني أشعر كما لو أنني قلت كلاماً باهراً بحقّ نفسه!
-رائعة أنتِ ، تحسُّن ممتاز ، أهنّئكِ ، ستكون هذه جلستنا الأخيرة .
خرجتُ من عنده وفي صدري ارتياحٌ عظيم ، كلُّ شيء كان مذهلاً في هذا النهار 
لا يدور في ذهني الآن سوى شيءٌ واحد أريدُ أن أفعله.
وصلتُ إلى المنزل وأخرجتُ الكرسي الخشبيّ الصغير الذي تحبه ، وضعتُه أمام الباب وجلستُ أنتظركَ لتأتي لأخبرك بما حدث ،
أرجوك
لا تتأخر .

الاسمبريد إلكترونيرسالة